تعيش كثير من الدول العربية عموما ومصر على وجه الخصوص عصرا يمكن وصفه بعصر التطور العاصف للمدن. وظاهرة التمدن تلك ليست ظاهرة قاصرة على الدول العربية وحسب، بل قد تمتد إلى كثير من الدول التى يطلق عليها "دول العالم الثالث". فأكثر من 44% من سكان مصر يعيشون فى المدن ويزداد عددهم باستمرار، وقد أصبح عدد الذين يعيشون فى المدن فى العالم أكثر من نصف عدد سكان العالم بحلول عام 2000م[1]. فلماذا هذا الإقبال الواضح والمتزايد على حياة المدن؟ يبدو أن حياة المدن ببريقها أصعب من أن تقاوم.

قد تقع دوافع حركة التحضر المعاصر بطبيعة الحال، فى الامتيازات التى تتمتع بها المدينة بالمقارنة بالقرية أو بالواحة فى الدول التى يطلق عليها "دول العالم الثالث". فالمدينة لا تتمتع بامتيازات أكبر من القرية أو الواحة بفضل توافر الخدمات وجودتها أو رقيها فحسب، بل وبفضل توافر فرص العمل وارتفاع مستوى أجورها النسبى أيضا. بالإضافة إلى هذا فالمزايا الاجتماعية والثقافية التى تتيحها المدينة لسكانها لا يمكن إهمالها. فما يطلق عليه "أضواء المدينة" (كأن غير المدن تعيش بالضرورة فى الظلام) أو ما يمكن أن تجلبه المدينة من شهرة للباحثين عنها من سكانها، تمثل إغراءات يصعب تجنبها، فنادرا ما تصيب الشهرة سكان القرى أو الواحات. والمدينة هى المسرح ودار السينما والنادى وهى مركز الإشعاع الإعلامى التى يستمد منها الإقليم التابع الثقافة والأخبار ويجد فيها التعبير، فكل هذه الخدمات يصعب أن تقوم فى القرى، وإذا قامت فإن القرية كتجمع سكنى تكون قد لعبت دور المدينة كمركز خدمات إقليمى.

ولكن يصعب رؤية تلك الدوافع كأنها وليدة الصدفة أو كأنها حديثة الميلاد معاصرة الأسباب. فلابد أن تلك الإغراءات وذلك البريق الذى تتمتع به المدينة يضرب بجذوره فى أعماق التاريخ، ويستمد اغراءاته من مواريث متعددة قد تكون ثقافية أو اجتماعية أو سياسية.

إن ما يكسب دراسة العمران التاريخى قيمة وأهمية خاصة جدا، هو أنها لا تمهد الطريق أمام التعرف على المعايير والقيم المحلية والبدائل العمرانية التى كتب لها النجاح والدوام، (فى مقابل تلك التى كتب لها الإندثار بسبب فشلها فى الإستجابة لإحتياجات المجتمع والبيئة) فحسب، بل لأنها تلقى بأضواء كاشفة على أساليب وتقنيات تشييد المدن فى عصور كان تدخل المُخَطِط فيها نادرا أيضا. فقد كانت المدن تنمو وتتطور تبعا لقوى محركة كامنة يتحكم فيها أفراد المجتمع بطبقاتهم المختلفة وبتوازناتهم السلطوية والاجتماعية السياسية الاقتصادية. فالمعايير المستخدمة لتقييم البدائل والأفكار العمرانية المطروحة فى المدن التاريخية غالبا ما كانت معايير حضارية نابعة من صراع الإنسان الدائب للتقدم والتطور.

كثيرا ما يطرح التساؤل الهام: هل عمليات بناء ونمو المدن التاريخية عشوائية أم لها قواعد وأسس منظمة؟ لا تنشأ المدن ولا تتطور أو تنمو من تلقاء نفسها أو حسب هواها أو هوى فرد من الأفراد. فالمدن منتج إنساني جماعي بالدرجة الأولى تنبع من ضرورات يفرضها الواقع الحضاري. ولذلك يجب على المدن أن تستجيب بنجاح للعديد من الاختبارات التاريخية القاسية. فالبيئات المشيدة التى فشلت فى مواجهة اختبارات التاريخ تزوى وتذبل أو يضمحل دورها وتنزوى فى الظل، تاركة الساحة لبيئات أكثر نجاحا ومرونة فى المواجهة والصراع. والخبرات السابقة للمجتمع سواء فى مراحله الأولى (العصور البرونزية) أو استقراره فى بيئات عمرانية لا تفني بل تشكل خبرات مستمرة ومتراكمة للمجتمعات المتتابعة. تلك الخبرات تتمثل فى إنتاج بيئات مشيدة أكثر مرونة وأكثر قدرة على مواجهة متطلباتهم المتنوعة والمتغيرة.

فالمعالجات المناخية والرموز الجمالية المستوحاة من البيئة مثلا، والاحتياجات الوظيفية النفعية يتم استيعابها من خلال الخبرات الجماعية المتوارثة ومن خلال تطويرها بشكل مستمر ودائم على مدى التاريخ. فقد تختلف أو تتغير بعض المفردات العمرانية ولكنها لا تندثر طالما ثبت عمليتها وفاعليتها.