رهينة الألف عام
روض الفرج - 2009
تِك تِك تِك....دقات الساعة تُعلن عن بلوغ الساعة التاسعة مساءً، ودخول (فضل) من باب الشقة حاملاً -على ما يبدو- كتابًا في يده اليسرى، واليمنى تحمل لوازم الأسبوع ...ضغط المفتاح الموجود على يمينه ليضيء النور أرجاء المكان ..لمح شيئًا يتحرك أو خُيِّل له أنه رآه..
لم يشغل باله، فقد اعتاد تلك الحركات منذ أن سكن تلك الشقة، واعتاد أيضًا ألا يهتمّ ...ولكن ما حدث تاليًا سيجعله يهتم حتى الموت ..
ظلام...نور خافت يأتي من نافذة الغرفة ..ظهور عينان خضراوان مشتعلتان، كأنما احتويتا العالم بداخلهما ينظران لـ(فضل) من أعلى
كأنما تحاولان إيجاد روحه، ويبدو أنهما قد وجدتا ضالتهما..إظلام تام....
الشرقية - 1987
«يا كااامل ..يا كاااامل تعالى».
تلك كانت صرخات استغاثة والدتي رحمها الله ..أتى صوت والدي ملبيًّا
- ماجدة..ما لك؟!!
- حاسة إني بولد ..الحقنى.
- الدكتور قال لسه أسبوع على ميعاد الولادة....
كان الله في عونها، فألم الولادة ثاني أشد الأوجاع البشرية التي اختبرها الإنسان بعد آلام الصداع العنقودي والحرق حيًّا لو كنتم تعرفون ..
تسمَّر والدي مكانه لحظات غير مستوعب، حتى أفاق وخرج مسرعًا لينادي إخوته ..ووجدهم سلفًا عند الباب قد جذبتهم صرخات الاستغاثة التي أطلقتها والدتي ..وجوههم عابسة من أثر النوم البادي عليها.
وخرج عمي مع والدي ليذهبا للطبيب الموجود في المركز التابعة له قريتنا، ولأجل حظي الذي يرافقني من قبل ولادتي ...كان يومًا شديد المطر، والطرق يا صديقي لم تكن ممهدة مثلما هي الآن، ولا تنسَ أنها الشرقية في عام 87 ..
وكأن السماء قد تحالفت مع الأرض لتصعب مهمة والدي وعمي
في إحضار الطبيب..
بعد ساعة كان والدي قد عاد ومعه الطبيب، والله أعلم بما لاقاه حتى عثر على طبيب المستشفى العام، وعندما وصل كانت والدتي تلفُظ أنفاسها الأخيرة ..
قام الطبيب بما يجب عليه فعله، ولكنه قد تأخر كثيرًا، ولم تحتمل والدتي، ولم يحتمل جسدها كذلك ..ضمتني إلى صدرها للمرة الأولى والأخيرة ..إني لأشعر بتلك الضمة حتى اللحظة التي أكتب فيها تلك السطور التي تقرؤها، كأن جزءًا من روحها قد علِق بجسدي وهي تصعد للسماء لخالقها ..
قبل موتها بلحظات نظرتْ لوالدي وهمست بصوت بالكاد يُسمع:
- متحرموش من أبوه زى ما هيتحرم من أمه ..سيب الكتب اللي هتضيعك وخلي بالك منه...
وقبلتني وأغمضت عينيها.... للأبد
ولم يستطع والدي أن يجيبها، فقد سبق السيف العذَل، وفاضت روحها إلى بارئها، ونُفذ أمر الله ...
وحتى يومي هذا أتساءل ..هل كانت السماء حزينة سلفًا لموت والدتي، فبدأت البكاء مبكرًا؟ أم فقر القرى المصرية في ذلك الوقت بالأطباء هو السبب؟ أم كنت أنا السبب في موتها وحرمانها مني وحرماني منها، وأبقى طوال حياتي لا أعيها ولا أعرفها ولا أجد لها إلا صورتين قديمتين باهتتين ...رحم الله أمي وسامحني على ما فعلت...