التقى المنحدر القريب من قلعة الأناضول
بالبوسفور في منخفض حاد. وخفّف الغطاء النباتي الكثيف من حدة الصخرة الخشِنة. ففي
أواخر شهر مايو كانت التلال الجانبية مغطّاة بالبراعم الحمراء وكافة الظلال
الخضراء. ويسود الصمت؛ حتى أصوات زقزقة العصافير لم تكن لتعكّر صفوه، بل كانت تزيد
من عمق الصفاء؛ تماماً كعقد من اللؤلؤ يُمعن من بساطة ثوب عادي. ثمة حفيف في خلفية
هذا المشهد الصامت، والغمغمة المتناغمة لآلاف الأصوات الصادرة من الجهاز الضخم
الذي سحق البشر تبدو الآن بعيدة ومستأنسة. أما البراعم الحمراء فتتجاهل ضراوة
العاصمة. وهكذا أفعل؛ قالت السيدة لنفسها وهي تمسُّ عقد اللآلئ حول عنقها؛ ولكنه
لطالما كان هناك، ولن يختفي أبداً، سيظل هو بعد أن تخلع فروع البراعم الحمراء
كسائها، وحتى عندما تكون هي بعيدة جداً. العوادم والغازات التي تنبعث من تلال
القمامة تهيمن على ضوضاء البشر، وأنّات المرضى، ونشيج المحرومين.. فمن عساه يسمع
صرخات الأطفال الذين يتضورون جوعاً، أوتنهيدات هؤلاء الذين لا يتراءى لهم مستقبل؟
ولا أنا كذلك، فكّرت السيدة ولم تزل يدها فوق
لآلئها، وتساءلت عمّا إذا كانت قد بالغت في تأنقها، فالأمر لا يعدو كونه مقهى في
الحديقة. كانت تستمتع بالاعتناء بمظهرها أياً كانت المناسبة. ألا يعني هذا
اهتمامها بنفسها وبالشخص الذي تلقاه على حد سواء؟
لم تكن ابنتها لتلتفت لأشياء كهذه، واكتفت
بارتداء بنطالها الجينز وانتعال حذائها الرياضي، وعقَفَت شعرها إلى أعلى بشكل
عشوائي فيما يفترض أن يكون ذيل حصان، وخلا وجهها من المساحيق. يناسبها هذا أيضاً، قالت
أمها لنفسها، وأرادت حينئذ لمس طفلتها بيد أنها ابتعدت عنها في نفس اللحظة.
شرعت الابنة تذيب السكر في الشاي، وبدا صوت خشخشة
الملعقة ونقرها جدران القدح زنبقيّ الشكل وكأنه بلا انتهاء. لقد سئِمَت مني؛ وتذكَّرَت
شبابَها، وكيف كانت تَضجَرُ من أمَّها المتوقِّعة أن تلقى منها اهتماماً.
قالت لابنتها: "أردتُ أن أريكِ هذا
المكان. فهو أحد المواقع النادرة التي شهدت إسطنبول قبل أن تتوسع بهذا الشكل
الهائل".
أجابتها ابنتها الشابة: "لطيفٌ جداً،
ويبعث على الاسترخاء حقاً"، ورفعت يدها عن الملعقة للحظة، وأغلقت عينيها،
وشرعت تستمع إلى الصمت قبل أن تعاود تحريك الملعقة وتقليب الشاي مجدداً، حتى بدا
وكأن سكيناً يمزّق هذا الصمت إلى شرائح.
"لكم يسعدني أنكِ أحببتِ هذا
المكان"، قالت الأم لابنتها ولم تزل تداعب قلادتها. كانت الابنة الشابة تعرف
حركة يدها تلك، والتي اعتادتها أمها مذ كانت هي طفلة صغيرة. فإذا أرادت أمها أن
تقول شيئاً هاماً، أو شيئاً اعتقدت أنه شيئاً هاماً، كانت – أولاً – تتأنّق في ملبسها، ثم تطلب اصطحابك إلى مكان جميل.
وبينما تكافح لفتح الموضوع تعمد إلى مداعبة الأشياء المتدلية من ملابسها. فعلامَ
كل هذا التظاهر وكل هذه الطقوس؟!