النكتة،

السخرية،

الساخر،

مصطلحات قديمة جدًّا، ولكنها لم توجد بقوة في حياتنا اليومية والعملية إلا منذ فترة قريبة، لأن تلك المصطلحات لا توجد بمساحتها الكبيرة التي تحتلها في وقتنا الحالي سواء على صفحات الجرائد والمجلات والكتب والإصدارات والأفواه إلا في حالة الكرب والاكتئاب، حالة كالتي نعيشها جميعا الآن‏.‏

فلقدْ ابتكرَ القدماء النكتة لنقد الحاكم والمحكومين، للسخرية من أحوال البشر والبشرية، للتنفيس عمَّا يجيش بصدورهم الجريحة سواء أكان هذا الجرح نتيجة لهجر حبيبٍ أم ظلم حاكم أو مشاجرة صديق‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

وكان قديمًا وحديثًا ضمن من احتلوا المساحة الكبيرة من السخرية هم البُخلاء‏.‏

فالبُخلاء لم يتمكنوا من الاختفاء بعاداتهم داخل جدران منازلهم، بل أصبح ما يؤمنون به خارج المنزل بغير خوف أو خجل، وكل منهم طرح ما يعتقده من خلال المهنة التي يُمارسها، وكان من أشهرهم كاتبنا الكبير توفيق الحكيم، فلقد كان ضمن ما قرأته عنه‏:‏ ""أن الرئيس عبد الناصر أرسله مشاركًا ومسئولًا عن الأمور المالية لوفد من الوفود الثقافية التي تُمثِّل مصر بالخارج، وبالفعل سافرَ الوفد وأدى جميع أعضائه ما عليهم من دور وطني، ثم عادوا بعد الرحلة والمفاجأة أن الحكيم يحمل معه كامل المبلغ، لم ينقص منه مليم، فسأله الرئيس متعجبًا عن سبب عودته بالمبلغ كاملًا فقال له الحكيم‏:‏ لم يحتج الوفد إلى مصاريف، ولكن الرئيس عبد الناصر كاد يقع مغشيًّا عليه من شِدَّة الضحك عندما وجد جميع أعضاء الوفد يشتكون له الحكيم الذي حبسهم في غرفهم ولم يستمع لمطالبهم بالتنزُّه، ومشاهدة الدولة التي أُقيم بها المؤتمر""‏.‏

ومن خلال ما سبقَ نجد أن بُخل الحكيم تأثَّر وأثَّر في عمله، فالمال ليس ماله الخاصة، وهو مال الدولة وأعطته الدولة إياه ليُلبي احتياجات أعضاء الوفد، ولكن صَدَقَ المثل القائل‏:‏ ""الطبع يغلب التطبع""، فلم يخفِ الحكيم بُخله بل كان لا يسعد عندما يلقبونه بــ ""توفيق البخيل""‏.‏

وأيضًا يُذكر أن أم كلثوم كانت من البُخلاء، فكانت لا تأكل يوميًّا إلا قطعة بسيطة من الجبن وزتونة، ولكن الكثير من محبيها حللوا ذلك بأنهم نسبوا تلك الطريقة في تناول الطعام إلى الرجيم القاسي الذي كانت تتبعه، مسكين أنت أيها الرجيم، فعاهات كثيرة تُرتكب باسمك‏.‏

والبُخل والبُخلاء بداخلنا، فداخل كل شخصٍ منا هذا الإحساس وتلك المشاعر، التي تولد معنا وتنبت كما تنبت أسناننا، ولكن يوجد من يكبت تلك الرغبة أو الشهوة ""حب المال وعدم إنفاقه"" ويتغلب عليه، ولكن يوجد مَن لا يستطيع التغلُّب على تلك الرغبة، وتسيطر هي عليه حتى يصبح تابعًا أمينًا ومخلصًا لها‏.‏

وللبخلاء حظٌّ وافر في المكتبة العربية، فلقد خصَّهم أشهر الكُتَّاب ""الجاحظ"" بأقيم الكتب ""البُخلاء للجاحظ"" وتسبب الكتاب في تحدث البعض بأن الجاحظ نفسه كان من أشهر البُخلاء، ويسوقون أدلة على حديثهم، فيوثقون بخل الجاحظ ""في أنه كان يحسب تمرات الرُّطب على ضيفه، إذا مدَّ يده إلى الطبق ويرمقه بنظراته، ويحلف عليه ألا يزيد؛ لأن ضيوفًا آخرين سيأكلون بعده""‏.‏

وفي العصر العباسي المُتأخِّر شاعَ في بغداد المثل القائل‏:‏ ""المال المال وما سواه محال""، ومن أفظع الهجاء ما قاله ابن الرومي يهجو بُخل عيسى بن منصور بقوله‏:‏

يُقتِّر عيسى على نفسه

وليس بباقٍ ولا خالد

فلو يستطيع لتقتيره

تنفَّس من منخر واحد

فبالفعل يشقى البخيل ويجمع الثروة، ولكنه لا يُنفق منها إلا الجزء البسيط حتى اللحظة الأخيرة في حياته، ويأتي بعده من يورثها ليتمتع بما ترك البخيل، فصدقت بعض الأمثال القائلة‏:‏

""أموال البُخلاء يضيعها السفهاء""‏.‏

""مال الكُنزي للنزهي""‏.‏

والبُخلاء في مصر ليسوا كأي دولة أخرى، ففي مصر محافظات بعينها أطلق عليها المصريون النكات الساخرة واتهموا أهلها بالبُخل‏.‏

وأنا أجد نفسي كمنوفي أصيل وأفخر بجلدتي وبلدتي بالمنوفية، فأنا ‎- وبلا فخر ‎- منوفي عاش بين الحقول الزراعية، وشرب الشاي السهاري المصنوع على منقد ""قوالح"" الذرة، وشرب اللبن من الجاموسة مباشرة، وأكل العيش البتاو أبو نغزة، وشرب من ماء القلة القناوي بعد أن تركت ليلة كاملة في نسيم البلكونة، وما زالتْ متعلقة بأنفاسي وراسخة بمعدتي الفول ورواسب الطعمية، أجد نفسي مضطرًّا أن أقول الحق ولا شيء غير الحق، فالحقيقة أن المنوفية مثلها مثل كل المحافظات تحوي بداخلها الكريم والبخيل، ولكن البخيل فيها ليس بخيلًا بالمعنى المعروف، ولكنه حريص في الصرف لأن ما حصل عليه من مال لم يكن نتيجة التنزُّه أو ممارسة ألعاب القمار، ولكنه حصل عليه بعد جدٍّ واجتهاد، ولذلك فالكثيرون ينظرون للمنوفي على أنه بخيل لمجرد أنه حريص، ولكني أطمئن الجميع أن بيت المنوفي يفيض بالكرم‏.‏   

كما أن أهل دمياط أصابتهم القفشة والنكتة المصرية، تلك النكتة التي تُصوِّر الدمايطة أنهم بخلاء شديدو البخل، حتى أنهم في لحظات الموت والخطر ينسى الدمياطي كل شيء في الدنيا الفانية ولا يذكر إلا الفلوس في أي شيء ستُصرف، وبالتأكيد إن تلك الدعابة لا تُعمم على ذلك الشعب الذي العظيم الذي يحوي بداخله  أمهر حرفي العالم، فمعظم منتجاتنا المصرية التي تصلح للتصدير المصرية تخرج من تحت يد المواطن الدمياطي‏.‏

فـ""الدمايطة والمنايفة والحكيم وعبد الوهاب وسومة‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ""

فللبخلاء مشاهير ونجوم، ولكن رغم كل ما يُقال عن البُخلاء مما يجعلك في أحيان تبغضهم وأخرى ترغب في التعرف إلى قصصهم، ففي النهاية لا تملك وأنت تتابعهم أو تقرأ عنهم إلا أن تشعر بمتعة حقيقية، فكل صفحة من الصفحات المكتوبة عنهم ترسم لي ولكِ ولكَ صورة كاريكاتورية رائعة لا تنتهي منها عجبًا، والبُخلاء يجعلونك تضحك من القلب، فهم يثيرون السرور والابتسامة، ويجبرون البشر على الضحك، مما يصنعونه بأنفسهم وبمن حولهم‏.‏

وفي النهاية، فلقد فضَّلت أن أواجه كل ما يحدث لمصر والمصريين من صراعات إخوانية سلفية مدنية على الدولة المصرية بالضحك‏.‏

الضحك، ذلك السلاح الفتاك الذي لا يستطيع أن يهزمه أقوى الأعداء، خاصة إن كان ذلك الضحك له معنى ونابعًا من كبار الأدباء والمثقفين والفنانين والشعراء‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ‏.‏

ووجدت أن مواجهة البزخ السياسي الذي تعيش فيه مصر والإفراط في الحديث السفسطائي للكوادر السياسية بالفضائيات المصرية لا يضاهيه إلا البخل، لأن كرمهم في الكلام والكلام فقط زاد عن الحد‏.‏

فالبُخل هنا في هذا الكتاب، لمن يعي، هو ليس تجريحًا ولا استهزاء ولكنه، معنى، كلمة، رسالة، حكمة‏.‏

فإلى مَن يفطن الرسالة، سطرت صفحات هذا الكتاب،

وأيضًا إلى من يحاول أن يفهم الرسالة، وأيضًا إلى غير المبالي بفهم الرسالة، اقرأ الكتاب فقد تضحك منه أو عليه‏.‏

المهم في النهاية، أن تضحك في وقت كَثُرَ فيه البكاء‏.‏

"