إذا
كان الفحم هو محرك الثورة الصناعية التي شهدها العالم في القرن الثامن عشر، فإن
الإنترنت هي محرك الثورة التكنولوجية التي شهدها العالم في بدايات القرن الحادي
والعشرين، وإذا جاز أن نطلق تسمية على هذا العصر الذي نعيش فيه، فهو عصر
"الإنترنت" بامتياز، حيث ساهمت الانترنت في تغير أشكال وأنماط الحياة،
بل والحكومات والدول، وغيرت من المفاهيم التقليدية للقوة، فظهرت الحكومات
الإلكترونية، ثم تطورت إلى الحكومات الذكية، ومنها إلى المدن الذكية، وليس من
الغريب أن نجد قريباً دولة بأكملها أصبحت ذكية، تعتمد على الإنترنت وأجهزة
التليفون المحمول في الحصول على الخدمات كافة وإنهاء المعاملات كافة.
وقد كان لظهور الفضاء
الإلكتروني والشبكة العنكبوتية أثر مهم في الحياة البشرية، فسهولة استخدامها ورخص
تكلفتها ساعد على قيامها بأدوار مختلفة في الحياة البشرية، سواء تجارية أو
اقتصادية أو معلوماتية أو سياسية أو عسكرية أو أيديولوجية أو غيرها، ومن هنا ظهر
مفهوم جديد يمكن أن نطلق عليه مفهوم "القوة الإلكترونية(Cyber Power.(" فالذي
يدير العالم الآن آحاد وأصفار غاية في الصغر، وقد أصبح جلياً أن من يمتلك آليات
توظيف هذه البيئة الإلكترونية الجديدة فإنه الأكثر قدرة على التأثير في سلوك
الفاعلين المستخدمين لهذه البيئة.
وكما
ساعدت الإنترنت في تحقيق رفاهية الحياة الإنسانية، أصبحت أيضاً مصدراً لتهديدها،
حيث يستطيع أحد مستخدمي الفضاء الإلكتروني أن يوقع خسائر فادحة بالطرف الآخر، وأن
يتسبب في شل البينة المعلوماتية والاتصالاتية الخاصة به، وهو ما يسبب خسائر عسكرية
واقتصادية فادحة، من خلال قطع أنظمة الاتصال بين الوحدات العسكرية وبعضها البعض أو
تضليل معلوماتها أو سرقة معلومات سرية عنها، أو من خلال التلاعب بالبيانات
الاقتصادية والمالية وتزييفها أو مسحها من أجهزة الحواسب، وعلى الرغم من فداحة
الخسائر فإن الأسلحة بسيطة لا تتعدى الكيلوبايتس، تمثل في فيروسات إلكترونية
تخترق شبكة الحاسب الآلي وتنتشر بسرعة بين الأجهزة، وتبدأ عملها في سرية تامة
وبكفاءة عالية، وهي في ذلك لا تفرق بين المقاتل والمدني وبين العام والخاص وبين السري
والمعلوم.
ومن
هنا جاءت فكرة إعداد هذا الكتاب، الذي هو في الأصل رسالة ماجستير تم تقديمها بكلية
الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، بهدف معرفة التغيرات التي طرأت على
مفاهيم القوة وممارسة النفوذ في العلاقات الدولية بفضل الإنترنت، وكيف أصبحت مصدر
تهديد للدول والأفراد، ومعرفة المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها الأمن القومي للدول
عبر الإنترنت، مع دراسة النموذج الأمريكي في توظيفه للقوة الإلكترونية، وكيف أصبحت
مصدر نفوذ أو تهديد للأمن القومي الأمريكي؟
وقد
تم إعداد هذا الكتاب من ثلاثة فصول رئيسية، يناقش الفصل الأول التغيرات التي طرأت
على مفهوم القوة بفضل الإنترنت، وكيف ظهرت القوة الإلكترونية، ويتطرق الفصل الثاني
إلى عناصر القوة الإلكترونية الأمريكية، من حيث المصالح والتهديدات في الفضاء
الإلكتروني، والاستراتيجيات المتبعة للتعامل معها، ويتناول الفصل الثالث تطبيقات
لاستخدام القوة الإلكترونية - خاصة الأمريكية – سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو
عسكرية بهدف تحقيق التفوق وممارسة النفوذ في العلاقات الدولية.
وفي
النهاية لا يسعني إلا أن أشكر كل من ساهم في إخراج هذا العمل، سواء كان من أساتذتي
بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، خاصة الأستاذة الدكتورة نازلي معوض والأستاذة
الدكتورة سعاد محمود، اللتين أشرفتا على إعداد رسالة الماجستير التي اعتمد عليها
هذا الكتاب، وأن أهدي ثمرة جهدي المتواضعة هذه إلى روح أبي الطاهرة الذي طالما
تمنيت أن يكون معي مرشداً ومعلماً، وإلى أمي التي كانت مصدر الحماس الدائم بالنسبة
لي، وإلى زوجتي التي وقفت بجانبي حتى إخراج هذا العمل، وإلى إخوتي مؤمن ومحمد وإلى
اصدقائي وكل من شجعني ولو بكلمة حتى إتمام هذا الكتاب.